دراسات إسلامية

 

رعاية الطفل في التراث الإسلامي

بقلم:  أبو عايض القاسمي المباركفوري

 

 

 

لقي الطفل في التراث الإسلامي رعايةً فائقةً وعنايةً كبيرةً ومراعاةً وافيةً لحالته ولطفولته. والتراث الإسلامي حافل بآلاف الشواهد والأمثلة على ما يحظى به الطفل من المكانة الرفيعة في قلوب المسلمين منذ الصدر الأول من الإسلام: من الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وكان في الرسول –صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة في هذا الباب. فكان أكثر الناس مراعاةً لحال الطفل والطفولة. ولو ذهبنا نسرد ما ورد  من الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الباب لملأت صفحات. ونأخذ على سبيل المثال لا الحصر بعض الأحاديث النبوية وما روي عن المسلمين الأول من رعاية الطفل ومداعبته وملاطفته و العناية بتعليمه وتربيته.

     فكان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يداعب الأطفال، ويرحم و يرأف بهم ومن ذلك مواقفه مع أحفاده ومع أبناء الصحابة -رضوان الله عليهم-.

     روى البخاري في صحيحه، أن أبا هريرة - رضي الله عنه- قال: قبَّل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «من لا يَرحم لا يرحم»(1).

     وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون المعنى: من لا يرحم غيره بأي نوع من الإحسان لا يحصل له الثواب كما قال تعالى (هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلَّا الإحسَانُ)[الرحمن/60]. ويحتمل أن يكون المراد: من لا يكون فيه رحمة الإيمان في الدنيا لا يرحم في الآخرة أو من لا يرحم نفسه بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه لا يرحمه الله؛ لأنه ليس له عنده عهد فتكون الرحمة الأولى بمعنى الأعمال والثانية بمعنى الجزاء أي لا يثاب إلا من عمل صالحا. ويحتمل أن تكون الأولى الصدقة والثانية البلاء أي لا يسلم من البلاء إلا من تصدق أو من لا يرحم الرحمة التي ليس فيها شائبة أذى لا يرحم مطلقا أو لا ينظر الله بعين الرحمة إلا لمن جعل في قلبه الرحمة، ولو كان عمله صالحا اهـ ملخصا(2).

     وروى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: تقبلون الصبيان؟ فما نقبلهم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة»(3).

     وفي رواية عند مسلم: «وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة» وقال ابن نمير: «من قلبك الرحمة»:(4)

     ومعناه النفي أي لا أملك أي لا أقدر أن أجعل الرحمة في قلبك بعد أن نزعها الله منه. ووقع عند مسلم بحذف الاستفهام وهي مرادة(5).

     وروى مسلم في صحيحه عن أبي قتادة الأنصاري، قال: «رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص وهي ابنة زينب بنت النبي -صلى الله عليه وسلم- على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها»(6). قال النووي في شرحه: وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة ورحمتهم وملاطفتهم(7).

     وقال القاري في «المرقاة شرح المشكاة»: ومنها: أن فيه تواضع النبي - عليه الصلاة والسلام- وشفقته على الصغار وإكرامه لهم ولوالديهم(8).

     وربما أطال النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاته لأجل الطفل؛ فروى النسائي عن عبد الله بن شداد، عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إحدى صلاتي العشاء وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فوضعه، ثم كبر للصلاة فصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي وإذا الصبي على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو ساجد فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك، قال: «كل ذلك لم يكن؛ ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته»(9).

     قال الذهبي في سير أعلام النبلاء بعد ما ساق الحديث بمعناه:

     قلت: أين الفقيه المتنطع عن هذا الفعل؟ وعن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حامل الحسن على عاتقه، فقال رجل: يا غلام! نعم المركب ركبت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ونعم الراكب هو». رواه أبو يعلى في «مسنده»(10).

     وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جلاله وسمو مكانته يزور أصحابه ويسلم على صبيانهم. قال أنس بن مالك: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزور الأنصار فإذا جاء إلى دور الأنصار جاء صبيان الأنصار يدورون حوله فيدعو لهم ويمسح رؤوسهم ويسلم عليهم(11).

     وروى الإمام أحمد عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت البناني فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث، أنه كان يمشي مع أنس فمر بصبيان فسلم عليهم، وحدث أنس «أنه كان يمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمر بصبيان فسلم عليهم»(12).

     وكان -صلى الله عليه وسلم- يلاعب الصبيان، أخرج الضياء المقدسيّ في «المختارة»؛ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- وهو حديث صحيح؛ «النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلاعِبُ زَيْنَبَ بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا زُوَيْنِبُ يَا زُوَيْنِبُ مِرَارًا»(13).

     وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطي الأطفال حقهم ويراعي دواخلهم الفطرية ويتخذ منهم مواقف تنسجم وسنهم وطبيعتهم. فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك، أو خيبر وفي سهوتها ستر، فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع، فقال: «ما هذا الذي أرى وسطهن؟» قالت: فرس، قال: «وما هذا الذي عليه؟» قالت: جناحان، قال: «فرس له جناحان؟» قالت: أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة؟ قالت: فضحك حتى رأيت نواجذه(14).

     وكان هذا والسيدة عائشة جارية صغيرة السن، يراعي رسول الله سنها ودواخلها الفطرية، فلا ينهرها.

     وروى البخاري في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان لي صواحب يلعبن معي، «فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل يتقمعن منه، فيسرِّبُهن إلي فيلعبن معي»(15).

     وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ فَرُبَّمَا دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصَوَاحِبَاتِي عِنْدِي، فَإِذَا رَأَيْنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَرَرْنَ، فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «كَمَا أَنْتِ وَكَمَا أَنْتُنَّ»(16).

     وكان -صلى الله عليه وسلم- يرغِّب في حبّ الأطفال ويؤكد أن رعايتهم من واجب الوالدين وأفراد المجتمع عامة؛ لأنهم قربى إلى الله تبشر برحمته وتقي عذابه، فعن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «مهلا عن الله، مهلا، فإنه لولا شيوخ ركع، وشباب خشع، وأطفال رضع، وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا»(17).

     وعن أنس بن مالك يقول:جاء شيخ يريد النبي -صلى الله عليه وسلم- فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»(18).

     وكان يمسح على رأس الصبي ويدعو له. روى البخاري في الأدب المفرد والإمام أحمد في المسند - عن يُوسُف بْن عَبْدِ الله بْنِ سَلَّامٍ قَالَ سَمَاني رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يُوسفَ وأَقعَدنَي عَلى حِجْرِه وَمَسحَ عَلى رَأسِي. زاد الطبراني في الكبير: ودعا لي بالبركة(19).

     وعن محمد بن حاطب، قال: «لما قدمت بي أمي من أرض الحبشة حين مات حاطب، فجاءت النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أصابت إحدى يدي حريق من نار، فقالت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب وقد أصابه هذا الحرق من النار. قال محمد بن حاطب: فلا أكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري أنفث أو مسح على رأسي، ودعا في بالبركة وفي ذريتي»(20).

     وفي الحديث: بيان تواضعه، وكمال رحمته بالأطفال، ومحاسن أخلاقه.

     واعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأطفال ريحانة فعن عمر بن عبد العزيز قال: زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج محتضنا أحد ابني ابنته وهو يقول: «والله إنكم لتجبنون وتبخلون، وإنكم لمن ريحان الله - عز وجل-، وإن آخر وطأة وطئها الله بوج»، وقال سفيان مرة: «إنكم لتبخلون وإنكم لتجبنون»(21).

     وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع الصبي إذا مر به هو راكب؛ فعن جعفر بن خالد بن سارة، أن أباه أخبره، أن عبد الله بن جعفر، قال: لو رأيتني وقثم وعبيد الله ابني عباس، ونحن صبيان نلعب، إذ مر النبي -صلى الله عليه وسلم- على دابة، فقال: «ارفعوا هذا إلي» قال: فحملني أمامه، وقال لقثم: ارفعوا هذا إلي فجعله وراءه، وكان عبيد الله أحب إلى عباس من قثم، فما استحىىٰ من عمه أن حمل قثما وتركه، قال: ثم مسح على رأسي ثلاثًا، وقال كلما مسح: «اللهم اخلف جعفرا في ولده» قال: قلت لعبد الله: ما فعل قثم؟ قال: استشهد، قال: قلت: الله أعلم بالخير ورسوله بالخير، قال: أجل(22).

*  *  *

الهوامش:

(1)     رواه البخاري في الأدب برقم [5997].

(2)     فتح الباري 10/440.

(3)     رواه البخاري في الأدب برقم[5998].

(4)     رواه مسلم في الفضائل برقم[64].

(5)     فتح الباري 10/430.

(6)     رواه مسلم في صحيحه في المساجد ومواضع الصلاة [543].

(7)     شرح النووي على صحيح مسلم5/31، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

(8)     عمدة القاري شرح صحيح البخاري 4/304، ط: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

(9)     رواه النسائي في التطبيق برقم[1141].

(10)   سير أعلام النبلاء 4/334.

(11)   شرح معاني الآثار 4/242 [1577]؛ والنسائي في السنن الكبرى 7/386 [8291].

(12)   مسند الإمام أحمد برقم [12337].

(13)   الأحاديث المختارة للضياء المقدسي [1733] راجع: منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن سعيد بن محمد المكي (ت:1410هـ)، الناشر: دارالمنهاج، جدة، 2/438.

         الناشر: دار المنهاج جدة.

(14)   رواه أبوداود في الأدب [4932].

(15)   رواه البخاري في الأدب [6130].

(16)   رواه النسائي في السنن الكبرى كتاب عشرة النساء[8898].

(17)   رواه أبويعلى في المسند [6633] (قال محققه: إسناده ضعيف) ط: دار المأمون للتراث دمشق.

(18)   رواه الترمذي في أبواب البر والصلة [1919]. وقال: وفي الباب عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي أمامة، هذا حديث غريب وزربي له أحاديث مناكير عن أنس بن مالك وغيره.

(19)   الأدب المفرد 1/191، ومسند الإمام أحمد [23838] والطبراني في الكبير [731].

(20)   رواه الطبراني في المعجم الكبير[535].

(21)   رواه أحمد في المسند [27314] ت: شعيب الأناؤوط، وقال: قال السندي: قوله: «والله إنكم لتجبنون»، الخطاب للأولاد، والفعلان بالتشديد، من التفعيل، أي: إنكم لتجعلون الأب جبانا بخيلا، لا تبقى له همة الإعطاء خوفا عليكم. «لمن ريحان الله»: الإضافة إلى الله تعالى لأنه المعطي، والتشبيه بالريحان؛ لأن الأب يشمه ويضمه إلى نفسه، ويفرح به، كما يشم الريحان، ويفرح به. آخر وطأة: بفتح واو وسكون طاء وهمزة. بوج: بفتح واو، وتشديد جيم، المراد به الطائف، أي: آخر قتال المسلمين كان بالطائف، فجعل ذلك وطأة الله، لأنه بأمره، والله تعالى أعلم.

(22)   رواه أحمد في المسند [1760] قال محققه شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن، خالد بن سارة- بتشديد الراء- سبق برقم (1751)، وباقي رجاله ثقات..

* * *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، رجب 1436 هـ = أبريل – مايو 2015م ، العدد : 7 ، السنة : 39